“الطائرات شبه الخاصة” .. مفهوم جديد يغزو سوق السفر وينعش شركات التصنيع
عندما يسير الشخص على الأقدام في شارع بارك لين الموازي لحديقة هايد بارك الشهيرة وسط العاصمة البريطانية لندن، فإنه يجد بجوار أحد أفخر الفنادق المطلة على تلك الحديقة، واجهة زجاجية ضخمة لإحدى الشركات لاستئجار الطائرات الخاصة، متأملا مجسما حقيقيا لتصميم داخلي لطائرة خاصة حيث الأناقة والرفاهية والفخامة مجتمعين في آن.
ولأننا نعلم أن ركوب الطائرات الخاصة من علامات الثراء والشهرة، في الوقت الذي لا تسمح فيه رواتب البعض المتواضعة للقيام بتلك المغامرة، يكتفي المرء بالتوقف دقائق معدودات يتطلع فيها إلى التصميم الداخلي للطائرة الخاصة، بينما يجتاحه سيل من الأماني بأن يخوض تلك المغامرة يوما ويحلق في السماء بطائرة خاصة.
بالطبع حجز تذكرة سفر على الدرجة التجارية لقضاء عطلة سنوية بات يتطلب ترتيبات تقشفية عسيرة خاصة مع التدهور المتواصل في قيمة الجنيه الاسترليني، مع هذا الحلم يلاحقنا من حين إلى آخر بأن يسافر يوما ما بطائرة خاصة، على أمل أن يكون ذلك ضمن ذكريات يحرص عليها الشخص حرصا شديدا على أن يتناقلها الأبناء والأحفاد في أسرته جيلا بعد جيل.
بالتأكيد فإن الحالم بمقعد وثير في رحلة على متن طائرة خاصة، حيث الفراولة والكافيار والعصائر الفاخرة، لكن تلك الأمنية التي بدت للكثيرين صعبة المنال قبل جائحة كورونا، تبدو الآن قابلة للتحقيق لعديد من ميسوري الحال أو متوسطي الثراء.
وباء كورونا والقيود التي فرضت على السفر الجماعي لنحو عامين تقريبا، كانت بمنزلة العامل الأساسي لازدهار الطلب على الطيران الخاص وتحديدا من قبل رجال الأعمال والمشاهير الذين تتطلب اعمالهم كثيرا من السفر في الدرجة الأولى، فمعوقات السفر “الكورونية” جعلت تلك الفئة من الأشخاص تجد أنه من الأضمن “صحيا” لها أن تعتمد على الطيران الخاص في سفرها، إذ يمكن تعقيم الطائرات الخاصة بدرجة أعلى من الطيران التجاري ذي الصبغة الجماعية.كما أن الفروقات السعرية، خاصة إذا كانت الرحلة تضم عددا من الأصدقاء أو فريق العمل المصاحب لك لن تكون باهظة الثمن بشكل كبير مقارنة بالسفر التجاري إذا كنت من معتادي السفر عبر الدرجة الأولى.
ويعلق دانيال سكوت رئيس قسم التسويق في شركة نيت جيت لتأجير الطائرات الخاصة قائلا، “الطلب على رحلات الطيران الخاص يزدهر، وأسفر عن انتعاش أعمال كبرى شركات تصنيع الطائرات الخاصة، لدرجة أن الشركات المصنعة لم تكن قادرة على مواكبة الطلب المتزايد منذ ظهور جائحة فيروس كورونا، والعام الماضي ارتفع استخدام الطائرات الخاصة إلى أعلى مستوى على الإطلاق، وقد سجل 3.3 مليون عملية إقلاع لطائرات خاصة في 2021، وهو أكبر عدد في عام واحد، محققا زيادة 7 في المائة من أعلى مستوى سابق في 2019”.
وفي الواقع فإن لغة الأرقام تدعم وجهة النظر المؤيدة لفكرة الازدهار المستقبلي للطيران الخاص، إذ يبدو مسار هذا النوع من الطيران واعدا أكثر من أنماط الطيران التجاري.تشير الإحصاءات إلى أن 10 في المائة فقط من أولئك القادرين على تحمل تكاليف السفر بالطيران الخاص فعلوا ذلك قبل الجائحة، الآن تشير الأبحاث إلى أن 79 في المائة من الأشخاص الذين يستطيعون تحمل تكاليف السفر بطائرة خاصة يميلون إلى القيام بذلك، وبالنظر إلى أن أكثر من النصف وتحديدا 53 في المائة من المسافرين الجدد يقولون إنهم يخططون للسفر بالطائرات الخاصة بشكل منتظم من الآن وصاعدا، فإن هذا يعني أن الطيران الخاص لن يتباطأ قريبا.
ولكن إذا كان وباء كورونا قد تراجع على المستوى العالمي، فما العوامل التي تدفع إلى مواصلة ازدهار الطلب على السفر بالطائرات الخاصة؟
تقول لـ”الاقتصادية” كارولين سميث المسؤولة التجارية في شركة جيت لوكس إحدى الشركات الشهيرة في مجال تأجير الطائرات الخاصة، “شهدت الصناعة زيادة في الاستخدام من قبل المستخدمين التقليديين إلى جانب عدد من الوافدين الجدد، وخلال جائحة كورونا كان عملاء الطائرات الخاصة يتطلعون إلى خدمات التأجير للعودة للوطن أو إعادة أفراد الأسرة أو الحيوانات الأليفة إلى المنزل بأمان أو نقل مريض أو إجراء أعمال أساسية، لكن نظرا لتطور وضع السفر على مدار العامين الماضيين وتطورات احتياجات العملاء، بات هناك كثير من الأشخاص الأثرياء القادرين على دفع تكاليف السفر بالطائرات الخاصة، والناس تنفق الآن مزيدا من الأموال على شركاتها وعائلاتها لضمان سلامتهم وضمان حصولهم على الراحة التي تمكنهم من الوصول إلى المواقع التي يريدونها بالطريقة التي يريدونها ومع من يريدون، هذا هو السبب في أننا نشهد أرقام نمو عالية من عام إلى آخر في الطلب على إيجار الطائرات الخاصة”.مع هذا يشير البعض إلى أن مستقبل السفر بالطائرات الخاصة يرتبط الآن بالرغبة في توفير الوقت أكثر من أي شيء آخر، خاصة بالنسبة لرجال الأعمال الذين يعدون المستهلك الأكبر في هذا القطاع، أكثر من ارتباط السفر بالطيران الخاص بمفهوم الرحلة الجوية الفاخرة كما يعتقد كثيرون.
ويعلق الطيار إل.دي مور قائلا، “ربما قبل عشرة أو 15 عاما كان الأمر يتعلق بالفراولة والكافيار والمشروبات الفاخرة، الآن يتعلق الأمر بإمكانية سرعة الوصول، فتوفير الوقت يعد بالنسبة لكثيرين إنجازا حقيقيا”.ويضيف، “الطيران الخاص ليس رخيصا على الإطلاق، لكن الآن وأكثر من أي وقت مضى لم يعد طيرانا للنخبة، إنه أغلى من الطيران التجاري بالتأكيد، لكنه يتضمن أيضا كثيرا من المزايا، بالطبع هناك عنصر فاخر في هذا النوع من الطيران، وستواصل الشركات الحفاظ عليه، لكن عنصر الرفاهية هذا ومع زيادة الطلب مكن شركات الطيران الخاص من ابتداع برامج سفر متنوعة على متن طائرات خاصة بعضها يمكن القول إنه مصمم لمجموعة من الأصدقاء أو العائلات الكبيرة ومن ثم يتم خفض تكلفة الراكب الواحد، والبعض الآخر مصمم ليتضمن درجات عالية للغاية من الرفاهية والتميز تتضمن الاستجمام والطعام الفاخر وترفيه الأطفال ووجبات للحيوانات الأليفة وجميعها خدمات غير متاحة، سواء على الرحلات التجارية أو حتى الطيران الخاص العادي إذا جاز التعبير”.
في إطار الجهود التسويقية التي تقوم بها شركات الطيران الخاص حاليا، للحفاظ على الزخم الراهن في الأسواق عبر اجتذاب مزيد من العملاء، فإن عددا من مزودي الخدمة يدرك أن الأسعار المرتفعة لتذاكر الطائرات الخاصة، لا تزال تمثل عائقا أمام شريحة واسعة من ميسوري الحال للاستمتاع بتلك التجربة، فضلا عن الإبقاء عليها كنمط للسفر والتنقل الخاص بهم وبأفراد عائلاتهم، وعليه يطرح بعض مزودي خدمة السفر بالطائرات الخاصة مفهوما جديدا في هذا المجال، يعرف حاليا باسم “الطائرات شبه الخاصة”، مستخدمين في ذلك الطائرات الأكبر حجما من الطائرات الخاصة، إذ عادة تتسع الطائرات الخاصة لما يراوح بين ستة إلى 20 شخصا، في هذا النوع من الرحلات “شبه الخاصة” يبلغ العدد تقريبا 20 راكبا، لكن عليك مشاركة الطائرة مع ركاب آخرين لا تعرفهم، كما أنه لحداثة التجربة فإنها تقدم عددا محدودا من وجهات السفر.
وتتوقع ماليني سميث الاستشارية السابقة لعدد من شركات الطيران الخاصة النجاح لهذا النوع من الرحلات الجوية المبتكرة.
وتؤكد أن الطائرات الخاصة لها جاذبية لا يمكن إنكارها، وهذا النوع من الرحلات شبه الخاصة يحقق تلك الجاذبية إلى حد كبير، كما أنه يقلص التكلفة المالية التي يتحملها المسافر في الوقت ذاته، وفي الأغلب سينجح هذا المحتوى الجديد من الطيران الفاخر شبه الخاص في جذب قطاعات تمتلك القدرة على السفر بدرجة رجال الأعمال، لكن استئجار طائرة خاصة للسفر بها لا تزال مكلفة نسبيا لها.
من هذا المنطلق تعمل شركات الطيران الخاص على تشجيع الركاب عبر ضمان درجة عالية من الخصوصية التي يضمنها هذا النوع من الرحلات مقارنة بالرحلات التجارية، بما يعنيه ذلك تجنب الجلوس في المقعد الأوسط المزعج والحصول على مقعد أكثر اتساعا ومزيد من الفخامة والرفاهية والراحة، وجميعها أشياء مطلوبة خاصة في الرحلات الطويلة، حيث تقضي ساعات عدة محلقا في الجو وتريد أن تحصل على أعلى درجة ممكنة من الراحة.
تراهن شركات الطيران الخاص على جاذبية المنتج الجديد على ضوء أن حجوزات الطيران التجاري في اللحظة الأخيرة تكون باهظة الثمن، وبينما تقلل بعض شركات الطيران التجاري من تكلفة الحجوزات لزيادة عدد الركاب الذين تقلهم، ترفع شركات أخرى بالفعل أسعار التذاكر من أجل زيادة الإيرادات، إلا أن هذا نادرا ما يتم في الطائرات الخاصة المستأجرة، التي في الأغلب ما تقتضي السعر نفسه بغض النظر عما إذا كانت المغادرة في غضون أيام قليلة أو بضعة أشهر.هذا الازدهار في مجال الطيران الخاص يساعد على إنعاش مبيعات الطائرات الخاصة، إذ ارتفعت الطلبات في الربع الثالث من العام الماضي بأكثر من 50 في المائة، وأسهم الأثرياء في دفع الطلب، خاصة أن نحو 25 في المائة منهم مشترون لأول مرة.
تمتلك شركة غلف ستريم أكبر شركة لتصنيع طائرات رجال الأعمال في العالم من حيث الإيرادات، أكبر عدد من الطلبات المتراكمة منذ ستة أعوام، بينما أعلنت شركة إمبراير البرازيلية لصناعة الطيران أن إنتاجها من الطائرات الخاصة أكثر مبيعا حتى الربع الأول من 2023.
يرتبط الطيران الخاص في كثير من الحالات بامتلاك طائرتك الخاصة، وبالنسبة لعدد غير قليل من المشترين لأول مرة فإن طائراتهم الأولى في الأغلب ما تكون من طراز G650 وهي طراز من الطائرات الخاصة يحظى بشعبية كبيرة بين الأثرياء.
قامت تلك الطائرة بأول رحلة لها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2009، وكانت حينها الطائرة الأسرع والأغلى التي تنتجها شركة غلف ستريم، وفي 2012 تم تسليم أول واحدة منها إلى عميل في الولايات المتحدة، كان سعر الشراء حينها يقارب 65 مليون دولار مع قائمة انتظار تصل إلى ثلاثة أعوام، ومع زيادة الطلب ارتفع سعر الطائرة إلى 73 مليون دولار.
أما الطائرات المستعملة من هذا النوع فيراوح سعرها بين 40 مليونا و55 مليون دولار حسب العمر والحالة والاستخدام، ويمكن لهذا النوع من الطائرات أن يقل 18 مسافرا وأن يطير دون توقف من بكين إلى لوس أنجلوس، وقدر عدد الطائرات من هذا الطراز 2022 بـ208 طائرات و131 من طراز G650ERs.بدوره، يقول لـ”الاقتصادية” إم.دي. سكوت المدير التنفيذي لشركة فليكس جيت للطيران الخاص “هناك نقص في سوق الطائرات الخاصة المستعملة، ما أدى لزيادة الطلب وارتفاع أسعارها، بل إن بعض المشترين لم يقوموا بعملية التدقيق الروتينية المعتادة، حيث ارتفع متوسط السعر المطلوب للطائرة المستعملة إلى أكثر من عشرة ملايين ونصف المليون دولار، وذلك أعلى بنحو مليون دولار مما كان عليه السعر قبل وباء كورونا”.لكن الخبيرة الاستثمارية هيلن بنهام تقول إنها تسمع كل يوم عن أشخاص مهتمين بالدخول إلى عالم الطائرات الخاصة، لكنها تعتقد أن ذلك لن يكون إيجابيا بالضرورة، فهناك فرق بين أن تخوض التجربة مرة للاستمتاع بها وبين أن يتعلق الأمر بشراء طائرة خاصة حتى وإن كنت ثريا.
وتؤكد لـ”الاقتصادية” أن الوافدون الجدد في الأغلب من الأفراد والأسر الثرية الذين رفعوا مستوى سفرهم من تذاكر طيران الدرجة الأولى قبل الوباء إلى الطائرات الخاصة حاليا، لكن شراء طائرة خاصة يرتبط في الأغلب بفاتورة صيانة وفواتير أخرى قد تصل في بعض الأحيان إلى مليون دولار سنويا، والنتيجة أن كثيرا من المشترين الجدد اشتروا طائرات بأسعار لا يمكن تحمل تكلفة صيانتها السنوية، فكان عليهم تأجير الطائرة لبعض الوقت لمسافرين آخرين، وإذا لم يتمكنوا من الاستمرار في هذا فإنهم سيواجهون مشكلات في دفع ثمن الطائرة أو فواتير الصيانة”.في حين أن استئجار طائرة خاصة أكثر تكلفة بكثير من السفر في رحلة تجارية، إلا أنه لا يزال أرخص بكثير من شراء طائرة خاصة، حيث أقل الأنواع تكلفة من طراز Cirrus Vision وتتسع لسبعة ركاب يصل ثمنها إلى ثلاثة ملايين دولار.
من جهتها، تعلق لـ”الاقتصادية” اليزابيث ميجور من قسم التأمين على رحلات السفر في شركة أيه أيه البريطانية قائلة “يتم احتساب تكلفة الرحلات على الطائرات الخاصة بالساعة وتختلف الأسعار حسب حجم الطائرة وطول الرحلة وعدد الأشخاص على متنها، والتكلفة تراوح بين 1200 دولار و12000 دولار للساعة لاستئجار طائرة خاصة، وبعض الشركات تطرح عروضا لاستئجار طائرة خاصة لعطلة نهاية الأسبوع كاملة بما لا يقل عن 50 ألف دولار”.لكنها تضيف “يمكن للسعر أن يختلف بشكل كبير حسب الموسم أو المسافة، وفي الأغلب سيكلفك حجز مقعد على طائرة خاصة ذات ستة مقاعد لرحلة مدتها ثلاث ساعات نحو 2500 دولار، وستتفاوت الأسعار بناء على الشركة، ومن ثم فإنه بالنسبة لمن يحجزون الدرجة الأولى أو درجة رجال الأعمال قد لا يبدو الأمر مختلفا كثيرا عن السفر على متن طائرة خاصة، لكن بالنسبة للمسافرين على الدرجة الاقتصادية، يبدو السعر مرتفعا”.عودا على بدء، ولأن معظمنا من رواد الدرجة الاقتصادية في رحلات السفر، إذ لا تسمح الموارد المالية المحدودة والراتب بأن يحلقوا في رحلة في طائرة خاصة بعد، فسيكتفون في الوقت الحالي بأن يحملقوا لدقائق في مجسمات الطائرات الخاصة والفاخرة ويحلمون بالجلوس على أحد مقاعدها محلقين في السماء