القطارات فائقة السرعة .. تخلف أمريكي وصدارة آسيوية والسعودية نموذج متقدم في الشرق الأوسط
عبر قارات العالم الخمس، تضخ مليارات الدولارات لتطوير شبكات السكك الحديدية، لتكون قادرة على استيعاب القطارات عالية السرعة أو ما يعرف بالقطار الطلقة أو الرصاصة، على أمل أن يكون ذلك وسيلة لحل مشكلات المواصلات والتنقل، والمساعدة أيضا على تحفيز النمو الاقتصادي.
قبل عامين تقريبا، قدرت الخطوط عالية السرعة قيد الإنشاء في جميع أنحاء العالم بنحو 11693 كيلومترا، بينما تقدر الأرقام الرسمية أن طول الشبكة عالية السرعة في التشغيل التجاري تبلغ 52418 كيلومترا من بينها 39674 كيلومترا في آسيا، 10766 في أوروبا ونحو 1045 في الشرق الأوسط، و735 كيلومترا في أمريكا الشمالية، و200 كيلومتر فقط في إفريقيا.
وتتربع الصين على صدارة شبكات السكك الحديدية فائقة السرعة في العالم، إذ تحتكر أكثر من ثلثي الكيلومترات التي تعمل عليها تلك القطارات، ومن حيث السرعة تحتفظ الصين أيضا بالمركز الأول، إذ تبلغ السرعة في القطارات الصينية 350 كيلومترا في الساعة، بينما تدير ثلاث دول، وهي: اليابان وفرنسا والمغرب قطارات بسرعة 320 كيلومترا في الساعة، أما معظم الدول الأخرى فسرعة قطاراتها تراوح بين 300 – 250 كيلومترا في الساعة.
افتتحت اليابان أول خط سكة حديد فائق السرعة في العالم بين العاصمة طوكيو ومدينة أوساكا عام 1964، القطار الياباني، الذي يعرف باسم “شينكانسن” أو القطار السريع والشهير بأنفه الطويل، كان احتياجا يابانيا ماسا لربط جزرها الثلاث الرئيسة.
اليوم تمتلك اليابان شبكة من تسعة خطوط سكك حديدية من تلك النوعية، تخدم ما لا يقل عن 22 مدينة، وبمرور الوقت باتت “الرصاصة” اليابانية الأكثر ازدحاما في العالم، حيث يستخدمها نحو مليون راكب يوميا، وتفتخر السكك الحديدية اليابانية بأنها وعلى مدار أكثر من 50 عاما من التشغيل، لم تسجل حالات وفيات أو إصابات بين الركاب بسبب الحوادث، مع تقديم الاعتذار للمسافرين إذا ما تأخر القطار عن الانطلاق أو الوصول إلى المحطة النهائية عن موعده المحدد لبضع ثوان.
في أوروبا يرجع الفضل إلى الإيطاليين في إدخال أول قطار فائق السرعة إلى القارة، كان ذلك 1978 وافتتح الخط بين روما وفلورنسا، وفي الأعوام التالية، أنشأت عديد من الدول الأوروبية شبكات سكك حديدية فائقة السرعة لربط المدن الداخلية ببعضها البعض.
وعلى الرغم من أن القطارات السريعة دخلت فرنسا 1981، وهي متأخرة نسبيا عن اليابان وإيطاليا، إلا أن موقع فرنسا المركزي بين شبه الجزيرة الإيبيرية والجزر البريطانية وأوروبا الوسطى، دفع إلى بناء معظم خطوط السكك الحديدية عالية السرعة الأخرى في أوروبا وفقا للمعايير الفرنسية للسرعات والإشارات باستثناء ألمانيا، التي تبنت معايير خاصة بسككها الحديدية، مع هذا تظل إسبانيا متفوقة على الجميع، إذ تمتلك أكبر شبكة من القطارات عالية السرعة في أوروبا، وتحتل المرتبة الثانية عالميا.
بمرور الوقت وخلال عقود من الاندماج بين دول الاتحاد الأوروبي، بدأت شبكات السكك الحديدية الأوروبية الوطنية فائقة السرعة في امتلاك روابط عابرة للحدود، ربما أشهرها “يوروستار”، الذي بدأ العمل عام 1994 ليربط بين فرنسا والمملكة المتحدة عبر نفق بحر المانش، واليوم فإن تطوير شبكة السكك الحديدية عالية السرعة بين الدول الأوروبية هدف معلن للاتحاد الأوروبي، وتتلقى معظم خطوط السكك الحديدية فائقة السرعة العابرة للحدود تمويلا من الاتحاد الأوروبي.
تبدو الولايات المتحدة متخلفة عن آسيا وأوروبا في هذا المجال، بل إن بعض الخبراء يعتقدون أن الولايات المتحدة لا توجد بها قطارات فائقة السرعة.
ولـ”الاقتصادية”، يعلق المهندس تيد مالكوم أحد المسؤولين في مجال الصيانة في شركة يوروستار قائلا “في الولايات المتحدة لا يوجد حتى الآن خط قطار عالي السرعة بالكامل، ولا يتم بناء أي منها إلا في كاليفورنيا، والسرعة القصوى للخط الذي يربط بين العاصمة واشنطن ونيويورك يبلغ 242 كيلومترا في الساعة على أجزاء محددة من مساره، لكن متوسط السرعة العام لا يتجاوز تقريبا 106 كيلومترات في الساعة، وكاليفورنيا تخطط لبناء سكك حديدية فائقة السرعة تربط بين سان فرانسيسكو ولوس أنجلوس وآناهايم، لكن هذا لن يتم حتى 2029”.
وفي الواقع، فإن أسباب تخلف الولايات المتحدة عن آسيا وأوروبا في مجال القطارات فائقة السرعة يعود إلى مزيج من العوامل المجتمعية والسياسية في آن، فثقافة قيادة السيارات والسفر بالطائرات ثقافة راسخة وعميقة في جذور المجتمع الأمريكي خاصة مع وجود عدد كبير من مصنعي السيارات في البلاد والتطور المستمر في تكنولوجيا السيارات لإرضاء أذواق ورغبات المستهلكين.
كما أن صناعة السيارات صناعة قوية وضخمة وتمتلك قدرات مالية عملاقة ولوبي قوي في الإعلام وفي المؤسسات التشريعية، أما السفر بالطائرات، فإنه منخفض التكلفة نسبيا، وعلى الرغم من أن تحالف السكك الحديدية عالية السرعة في الولايات المتحدة وبمساعدة مجموعة تشريعية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي عمل العام الماضي على حشد 205 مليارات دولار لتمويل مشاريع السكك الحديدية فائقة السرعة في جميع أنحاء البلاد، كما عمل الرئيس السابق باراك أوباما سابقا على رصد نحو 13 مليار دولار من أموال خطط التحفيز من أجل مشاريع سكك حديدية عالية السرعة.
مع هذا كله، فإن احتمالات أن توضع تلك الاستثمارات في موضعها غير مؤكدة في أحسن الأحوال، فمجموعات المصالح والتيار المناوئ للقطارات فائقة السرعة يرى أن هذا النوع من وسائل النقل العام يتسم بالإفراط في الميزانية والمبالغة في السعر، كما أن سوء إدارة شبكات السكك الحديدية المتواجدة حاليا في الولايات المتحدة، يدفع إلى التشكيك في امتلاك القدرة الإدارية التي يتطلبها هذا النوع من وسائل النقل، وفي الأغلب ما تقوم حكومات الولايات بتحويل الأموال المخصصة للقطارات إلى استخدامات أخرى.
يشير مارك جاجين الباحث في الاقتصاد الأمريكي إلى أن إجمالي الإنفاق التسويقي على السيارات في الولايات المتحدة يبلغ سنويا نحو 35 مليار دولار أمريكي، ما يشير إلى قوة ثقافة قيادة السيارة في مواجهة استخدام القطار للتنقل.
لكنه يعلق لـ”الاقتصادية” قائلا “الكثافة السكانية المنخفضة لمدن الولايات المتحدة مقارنة بتلك الموجودة في أوروبا وآسيا تجعل من الصعب استخدام أعداد كافية من المواطنين لتلك القطارات، ما يجعلها غير مجدية اقتصاديا، كما أن حقوق الملكية في الولايات المتحدة أقوى، مقارنة بالدول الأخرى، ما يصعب على الحكومات شراء الأراضي من أجل السكك الحديدية، يضاف إلى ذلك أن غياب ثقافة استخدام وسائل النقل العام يصعب التحول إلى استخدامها حتى مع اكتمال البنية التحتية لها”.
تظل القارة الآسيوية درة التاج لصناعة القطارات فائقة السرعة وشبكات السكك الحديدية على مستوى العالم، ولا يعود ذلك إلى أن اليابان كانت أول من دشن هذا النموذج من القطارات، وإنما إلى التطور السريع للقطارات فائقة السرعة في الصين خلال العقدين الماضيين، فقد بدأت بكين التخطيط لنظامها الحالي من شبكة القطارات السريعة مستندة في ذلك على تمويل حكومي سخي، ومقتبسة من نظام شينكانسن الياباني.
وعلى الرغم من أن الصين دخلت على خط القطارات السريعة متأخرة للغاية مقارنة بجارتها اليابان أو أوروبا، إذ دشنت أول خدمة من نوعها عام 2008 بسرعات تراوح بين 250 و350 كيلومترا للساعة بين بكين ومدينة تيانجين، حيث المسافة بين المدينتين لا تتجاوز 117 كيلومترا.
حاليا، الصين تمتلك نحو 38 ألف كيلومتر، ويتوقع أن تبلغ فيها شبكة القطارات فائقة السرعة أكثر من 45 ألف كيلومتر بحلول 2025، وتخطط لأن يصل طول الشبكة إلى 70 ألف كيلومتر بحلول 2035، لتتفوق بذلك على خطوط السكك الحديدية عالية السرعة في العالم مجتمعة.
الدكتور المهندس إل.سي. جايفين من قسم هندسة القطارات في جامعة برمنجهام يعلق لـ”الاقتصادية” قائلا “في أوائل القرن الحالي لم يكن لدى الصين قطارات فائقة السرعة، وفي البداية استوردت معظم أنظمة تلك القطارات من خلال مشاريع مشتركة مع اليابان وألمانيا وفرنسا ودول أخرى، لكن في الأعوام الأخيرة طورت قدرة إنتاج داخلية، وهي تفوز الآن بعقود لتطوير تلك الشبكات في دول أخرى، وخصصت مبلغ 300 مليار دولار لبناء شبكة من تلك النوعية من القطارات بلغت 25 ألف كيلومتر عام 2020، وتتبع معظم الخطوط الجديدة مسارات الخطوط الرئيسة الراهنة وهي مخصصة لسفر الركاب فقط، وبحلول 2020 كانت السكك الحديدية الصينية تشغل نحو عشرة آلاف قطار فائق السرعة يوميا، أضف إلى ذلك أن الصين باتت تمتلك خدمة القطارات السريعة ذاتية القيادة وتصل سرعتها إلى 350 كيلومترا في الساعة”.
تظهر ضخامة خطوط السكك الحديدية فائقة السرعة في الصين عند مقارنتها -على سبيل المثال- بإسبانيا، التي تتمتع بأكبر شبكة من القطارات فائقة السرعة في أوروبا، مع ذلك فإن كل ما تملكه إسبانيا لا يزيد على 3200 كيلومتر من خطوط القطارات السريعة للغاية، بينما لا يزيد ما تمتلكه المملكة المتحدة على 107 كيلومترات.
مع هذا، فإن البعض يتساءل عن ضرورة وجود نظام سكك حديدية عالي السرعة وباهظ التكلفة في الصين، مع شكوك بقدرة عديد من فئات المجتمع دفع تكلفة استخدامه؟ وإذا كانت الحكومة الصينية ترى أن القطار فائق السرعة يوفر وسيلة سريعة وموثوقة ومريحة لنقل أعداد كبيرة من المسافرين في بلد مكتظ السكان لمسافات طويلة، بما يحسن الإنتاجية الاقتصادية والقدرة التنافسية على المدى الطويل، من خلال ربط أسواق العمل وتحرير السكك الحديدية القديمة لنقل البضائع، إلا أن البعض يرى أن تلك الشبكة رمز لقوة البلاد الاقتصادية والتحديث السريع وتنامي القدرة التكنولوجية، والأهم أداة لضبط البلاد ودمجها اجتماعيا وسياسيا.
وأضاف “الصينيون هنا لا يقدمون بدعة جديدة، فتاريخ بناء القطارات في قارة أمريكا الشمالية وأوروبا وإلى حد ما المستعمرات الأوروبية مثل الهند كان لأهداف مماثلة، لكن ما تطلب عقودا من الأوروبيين، أنجزه الصينيون في أعوام قليلة”.
ويرى جايفين أن الخطوة القادمة للصين هي ذاتها التي سلكتها أوروبا مع القطارات السريعة من قبل، فمع اكتمال الشبكة الوطنية أو قرب اكتمالها يزداد التركز على التحول من المستوى الوطني إلى قطارات سريعة عابرة للحدود.
ويعتقد أن الصين تسعى حاليا إلى تطوير قطارات عالية السرعة يمكن أن تربطها بروسيا ومنغوليا وجمهوريات وسط آسيا، وفي مراحل مستقبلية ستمتد إلى شبه القارة الهندية، وهذا لا يتعلق فقط بتوسيع الأسواق أمام المنتجات الصينية، بل إنه جزء من الأهداف الصينية التي تعمل على إحراز تقدم تكنولوجي في مجال الهندسة المدنية والتكنولوجيا، ما يمنحها مكانة مميزة على المستوى العالمي وتسحب البساط من تحت أقدام الأوروبيين والولايات المتحدة في واحد من أهم فروع المعرفة الإنسانية.
لا يقف الشرق الأوسط بعيدا عن هذا الاتجاه العالمي الذي يضخ مليارات الدولارات لتطوير خطوط السكك الحديدية وتوسيع استخدام القطارات فائقة السرعة، ولا شك أن التجربة السعودية عبر قطار الحرمين فائق السرعة الذي يبلغ طوله 450 كيلومترا ويربط بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية تعد نموذجا متقدما على دخول الشرق الأوسط مرحلة جديدة في عصر القطارات فائقة السرعة، آخذة في الحسبان تصميم محطات هذا القطار لاستيعاب الطلب المتزايد من قبل الركاب، حيث سيقفز العدد من 60 مليون مسافر سنويا إلى 135 مليون، ومع تشغيل القطارات بسرعة قصوى تبلغ 300 كيلومتر في الساعة سيختصر وقت السفر بين مكة والمدينة إلى ساعتين و20 دقيقة.
من جهته، أكد لـ”الاقتصادية” المهندس تيد مالكوم وجود وعي متزايد في منطقة الشرق الأوسط بأهمية القطارات فائقة السرعة في استيعاب الأعداد المتزايدة من الركاب والمسافرين.
وأضاف “إذا أخذنا في الحسبان اتساع نطاق الفئات العمرية الشابة في العالم العربي، وتلك الفئات عندها رغبة دائمة في السفر والتنقل، فإن القطارات فائقة السرعة ستكون وسيلة مثلى كمواصلات عامة، كما أن التجارة الإلكترونية تشهد انتعاشا في دول المنطقة العربية، والقطارات فائقة السرعة قد تكون حلا جيدا لتعزيز تلك التجارة عبر النقل السريع للبضائع داخل الدولة الواحدة أو بين دول الإقليم”.
لكنه يقول “على الدول العربية أن تتعلم من تجربة الآخرين، وسيكون من المفيد للمنطقة التنسيق مبكرا بشأن القطارات فائقة السرعة لوضع استراتيجية ذات طبيعة تكاملية، وإذا كانت الدول العربية لا تزال في مراحل أولية من استكشاف تلك المنظومة، فمن المؤكد أنه مع اكتمال شبكتها الوطنية سيكون هناك تفكير طبيعي في دمج الشبكات في مجموعة من الخطوط العابرة للحدود، خاصة وأن عديدا من دول المنطقة تعد خطوط القطارات فائقة السرعة وسيلة رئيسة لتنمية التجارة الداخلية، وربما الخارجية مستقبلا”.