النقل البحري

ميناء جدة: بوابة مكة الأولى قبل اختراع الطائرات

ماض عريق وشهرة تاريخية تمتد لقرون عرفت بهما سواحل البحر الأحمر وقلبها ميناء جدة الإسلامي، الذي يتميز عن غيره من الموانئ بنشاطه الديني إلى جانب الاقتصادي باستقباله حجاج بيت الله الحرام

يعتبر الميناء كذلك الأول لصادرات السعودية ووارداتها، إذ يتميز بموقعبة الجغرافى على خطوط الملاحةالعالمية بوصفه يربط بين ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا، مما جعله حيوياً في مجال التجارة البحرية العابرة ومسافنة الحاويات والبضائع

تاريخه منذ عام 646م

كان لميناء بوابة مكة الغربية تاريخ حافل وطويل، فقد استعمل منذ بدء التاريخ بواسطة السفن الشراعية في طريقها تحمل العاج وريش الطاووس وخشب الصندل واللبان والأقمشة الذهبية والبهارات وخشب الماهوجاني، وخلاف ذلك من الأشياء ذات القيمة إلى البلاد المتحضرة في ذلك الوقت على شاطئ البحر الأبيض المتوسط

ويشير المؤرخ عدنان اليافي لدى حديثه عن “كيف أصبحت جدة ميناء لمكة المكرمة ومعبر الحجاج إليها”؟ إلى أن بين أهم المصادر التي توثق ذلك ما جاء في كتاب “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” للمقدسي وهو رحالة عاش في القرن الرابع الهجري، أن جدة كانت منذ القدم نقطة عبور من وإلى المدن والبلاد المختلفة الواقعة على البحر الأحمر الذي كان يعرف قديماً ببحر القلزم، ولقد جاء في “معجم ما استعجم” لصاحبه عبدالله الأندلسي أن “جدة ساحل مكة”، وتبعاً لذلك ازدادت أهمية هذا الميناء بعد ظهور الإسلام وبخاصة في عهد الخليفة عثمان بن عفان عندما أمر بجعل جدة ميناءً لمكة المكرمة بدلاً من الشعيبة عام 26 هجرية، الموافق لمنتصف القرن السابع الميلادي، أصبحت جدة المدخل الرئيس لمكة يقصدها جل من نوى الحج أو العمرة

وبين اليافي أن تجار مكة كانوا يبحرون غرباً من جدة إلى الحبشة ودول أفريقيا الأخرى كما كانوا يبحرون جنوباً إلى اليمن وغيرها من الدول، وكانت جدة منذ قبل الإسلام مخزناً استراتيجياً ومستودعاً تجارياً لمكة

مجموعة من السنابيك التي كانت تستخدم في نقل الحجاج من الباخرة إلى الميناء قبل التوسعة التي حدثت للميناء عام 1369 للهجرة (اندبندنت عربية)

وأضاف “في عام (646م، 28هـ) كانت جدة على موعد مع أكبر أحداثها قاطبة حينما أمر عثمان بن عفان خلال فترة خلافته بتحويل الميناء إليها بدلاً من الشعيبة، وجعلها الميناء الوحيد بعد أن قدم إلى المدينة واغتسل في بحرها المعروف اليوم ببحر الأربعين”

إبان العصر الأموي الذي استمر من سنة 41هـ إلى عام 132هـ (661م إلى 750م) كانت جدة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمكة المكرمة وتابعة لها وكانت مرفأها وخزانتها، وخلال العصر العباسي زادت عمارة، إذ تذكر المصادر أنها استقبلت في عهد الخليفة العباسي المهدي أساطين الرخام التي وردت من الشام ومصر إلى مكة المكرمة لعمارة المسجد الحرام، وقد تم نقلها إلى مكة بواسطة العجل أي باستخدام الدواليب، وفي العصر المملوكي شهدت جدة تطورات هائلة حولت مينائها إلى مرفأ عالمي، وأصبحت المراكب تفد إليها مباشرة من الهند والخليج العربي والصين وغيرها

رسومات توثق ميناء جدة قديماً

زود الباحث المهتم بتاريخ جدة خالد أبوالجدايل صحيفة “اندبندنت عربية” ببعض الرسومات لمدينة جدة التي يعود تاريخها إلى عام 1843م الموافق عام 1256هـ، وهو العام نفسه الذي خرجت ولاية الحجاز من قبضة والي مصر محمد علي باشا وعادت تحت سلطة الدولة العثمانية في زمن السلطان عبدالمجيد، وفيها يتضح ساحل مدينة جدة قبل التوسعة التي تمت لمينائها في عهد قائم مقام جدة نوري باشا عام 1283هـ التي أصبح بها الميناء يحاكي ميناء الإسكندرية في ذلك الوقت

صورة قديمة لميناء جدة (اندبندنت عربية )

وقال أبوالجدايل “تظهر في الرسومات بعض المراكب والبحارة وبرج مراقبة بحري لإرشاد القوارب والسفن التي ترسو في ميناء جدة، كما تظهر مباني جدة المتعددة الأدوار ومنارتان لمسجدين، كما ظهر فيها بناء على الساحل يشبه طاحونة هوائية، شيدت خلال الفترة التي كانت جدة تحت قبضة والي مصر محمد علي باشا”

وكان ميناء جدة يسمى “البنط”، الذي يقصد به (الميناء) وهو المصطلح الدارج في أحاديث أهالي جدة قديماً، وكانوا عندما ينتهي الحج يحثون الحجاج على العودة إلى ديارهم سالمين غانمين محملين بهدايا من الحرمين الشريفين، فكانوا يقولون لهم “يا حاج عفشك والبنط”، تأكيداً لمفهوم الميناء

وأضاف الباحث “في الستينيات أطلق أهل جدة العاملون في الميناء مصطلح (السقالة) أي رصيف الميناء وأصبح مصطلحاً متداولاً بينهم تعبيراً عن الميناء الذي أصبح في عهد الملك فيصل يعرف بميناء جدة الإسلامي”

وبين أبوالجدايل أنه شرح في كتابه “روى لي والدي وصحبه”، مهنة “الحمالة” وأقسامها والتي يخلط كثير من الناس بينها وبين المهن الأخرى في مجال البحر، إذ يقصد بمهنة الحمالة “حمل البضائع والطرود من البنط (الميناء) إلى أحواش ومستودعات التجار، وكانت قديماً تنقل بواسطة عربات (الكرو) ثم أصبحت تنقل بسيارات النقل التي تعرف سابقاً بالفرش، وتنقسم الحمالة في البنط إلى ستة تخصصات هي التنجيل والتدخيل والتفنيد والتقريب والفرضة والزملة”

ولفت إلى أن أهالي جدة العاملين في الميناء “كانوا يجتمعون في غرفة مصنوعة من الخشب وفي وسطها بكرة دائرية مصنوعة من الخشب لوضع الشاي عليها وكراسي ويقضون بعض الوقت فيها، إذ كان الميناء في ذلك الوقت مليئاً بالخيرات القادمة من خارج حدود الوطن وبالحركة الدؤوبة التي لا تهدأ طوال اليوم”

الميناء في العهد السعودي

شهد ميناء جدة في عهد الملك عبدالعزيز ومن بعده تحديثات متعددة، ليصبح الميناء الأول لصادرات المملكة ووارداتها، ونقطة إعادة التصدير الأولى، إذ ترد عبره حتى الآن نحو 75 في المئة من التجارة البحرية والمسافنة الواردة عبر الموانئ السعودية

وتم إنجاز مشروع ميناء جدة الجديد الذي أطلق عليه اسم (ميناء الملك فيصل)، وأعدت وزارة المواصلات بهذه المناسبة كتاباً يشرح تفاصيل هذا المشروع ومنجزاته وكلفته ومزاياه كما يشرح بإيجاز عن إدارة الميناء ونشاطه وحركة النقل منه وإليه قبل نحو ستة عقود

وتصف وزارة النقل السعودية أن الميناء يعتبر “من أهم موانئ العالم إن لم يكن أهمها إذا قيست الأهمية بما يؤديه من خدمات لحجاج البيت الحرام، وبأنه طريق رئیس إلى المشاعر المقدسة”

حمالين يقومون بنقل أكياس من الحبوب من أرض الميناء بعد إفراغها من الباخرة إلى وسائل النقل المتاحة (اندبندنت عربية )

وتطرقت الوزارة في كتابها، يوم كان اسمها وزارة المواصلات، إلى أن حركة الميناء أدت إلى نشأة “مدينة مزدهرة لخدمة الحجاج واستقبال البضائع حوله، ولكن ميزان التجارة كان موسمياً يزداد خلال موسم الحج، إذ كانت تنقل البضائع بواسطة السنابيك الخشبية الكبيرة حيث تفرغ على الشاطئ يدوياً ومن هناك يأخذها التجار مباشرة إلى مستودعات خاصة بهم لتخزين البضائع في وقت لم يكن هناك أية مستودعات في منطقة الميناء القديمة”

شهد الميناء تطوراً لافتاً 1961 حين انتقلت مسؤولية إدارة الميناء إلى وزارة النقل، وصاحب ذلك حركة الازدهار الحالية وازدياد ورود البضائع إليه، وحينما زار الملك فيصل الميناء لافتتاح توسعته الأولى ووضع حجر الأساس أعلن في حينه أن “ميناء جدة عرف منذ القدم بأنه بوابة الحرمين الشريفين، وأمر بتغيير اسمه من ميناء الملك فيصل إلى ميناء جدة الإسلامي”

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى